Sunday, February 03, 2008

اللغة العربية 2

في خلال هذه الرحلة التي آسفت فيها على السيدة ذات العينين الزرقاوتين التي لم تسمع يوما كلمة تقدير كبيتي الشعر الذين صدرتهما في المقال السابق .. أفكر.. و أتفكر..


أفكر في حالها لو كانت تتكلم اللغة العربية، و تتذوق ما تصنعه اللغة العربية من بيان يصل لحد السحر في بعض الأحيان كما قال سيدنا محمد و إن من البيان لسحرا. هل لو كانت هذه السيدة تتكلم اللغة العربية و تفهمها و تتقنها، هل ستكون شخصيتها هي نفس الشخصية التي عليها الآن؟ و لو أن كل ميسر لما خلق له، فهل ستضيف اللغة العربية شيئا، أو تنقص شيئا من لغتها الأصلية.


و اتفكر في لغتها الأصلية، و بصفتها أستاذة في إحدى الجامعات السويسرية فقد كانت تتكلم الألمانية.

إن مجرد مقارنة اللغة الألمانية باللغة الإنجليزية يدلنا على أن اللغة الألمانية لغة تخدم الثقافة الألمانية، فألمانيا تلك البلد التي ولدت فيها اللغة الألمانيةـ في الأصل تسمى بدولة المفكرين و الكتاب. و يمكن في الألمانية كثيرا التعبير عن المعنى الواحد بعدة طرق.. بينما الإنجليزية عادة ما يجب أن تعبر عن المعنى بطريقة واحدة. و يظن البعض أن هذا هو السبب في أن اللغة الإنجليزية لغة عالمية، لكونها تعبر عن الأشياء بطرق محددة.


لقد كانت اللغة العربية في يوم من الأيام هي اللغة العالمية، و كانت هي لغة كتابة العلم أيضا، و كان على الأوروبيين تعلمها ليكونوا على دراية بالعلم كما هو الحال في بلاد العرب اليوم إذ عليهم تعلم إحدى اللغات الأوروبية ليذهبوا إلى سبيل العلم. فأي العصور كان أكثر ذكاء؟

بل و لماذا نقيس الذكاء باللغة أصلا؟


تقول النظرية أن التفكير يتم بالكلام، يعني لو أغلق شخص ما فمه و فكر، فإنه يفكر بالكلام، و يتكلم في أعماق نفسه بلغته الأصلية، مثلا شخص يريد أن يشتري لبنا، فإنه يقول في نفسه: أريد أن أشتري اللبن، و سعره كذا، من عند أي محل .. من كذا أو كذا أو كذا.


و مع كل كلمة تظهر صورة تعادل الكلمة.. مثلا لو قال من متجر العم صلاح، فإن صورة تجريدية من الذاكرة تتناسب و سرعة تفكيره و عرض الموضوع تظهر لمتجر عم صلاح. و لو قال لبنا لظهرت صورة تجريدية في عقله لكوب من اللبن.. قد تكون هذه الصورة رسمة، و قد تكون صورة كوب لبن حقيقي.. إنها طريقة برمجته العقلية التي تختار للذاكرة أي الصور يمكن عرضها عندما تنطق كلمة لبن أو تمر بالذاكرة. هكذا يعمل العقل البشري سبحان الله.


و مع الأفكار تتكاثر الصور، و لا يمكن أن تكون كل كلمة لها صورة، أحيانا تكون لها مجرد بقعة لونية، و أحيانا أخرى تظهر رسمة الكلمة نفسها .. إن هذا هو النظام البصري. العين ترى أشياء كثيرة خلال الدنيا، و تقوم بجمعها و ترتيبها في مكتبة كبيرة جدا اسمها الذاكرة، و كل شيء له كتاب و رف في رأسك.. السيارة لها كتاب كامل فيه كل خبراتك عن السيارة.. ألوانها، أنواعها، خبرتك الشخصية عنها، كل شيء مر عليك في حياتك له علاقة بالسيارة فإنه تم تنظيمه و كتابته بنظام معقد. و على كل كتاب يوجد غلاف عبارة عن صورة، و كلمة معه تقول لك العنوان. و أنت كل ما عليك هو أن تقول سيارة لتظهر لك هذه الصورة، و تظهر لك الكلمة.


و مع وجود صورة للسيارة، و صورة للكلمة، يوجد صوت أيضا.. فلا تظهر مثلا صورة كلمة سيارة في رأس شخص دون أن ينطقها نطقا داخليا.


إذن اللغة هي مجموعة رموز تعبر عن حياتنا، نتفق كلنا على أن كلمة سيارة لها معنى محدد، نعرفه و نفهمه.. فنتصل به.. ليس فقط بيننا و بين بعضنا.. بل نتصل به بأفكارنا.


و الصورة هي الوحدة التي تختزن بها الذاكرة الأشياء، و التخيل هو التصور و هو إعادة تركيب هذه الصور مرة أخرى لتنتج شيئا جديدا.



يقول فرديناند دو ساوشر. Ferdinand de Saussure


" النظام اللغوي هو سلسلة من الأصوات المختلفة، التي ترتبط بسلسلة من الأفكار المختلفة "


فرانكلين بي.جونز يقول:

" إن عالم اللغة غريب حقا، فقد يأخذك التزحلق على الجليد فيه إلى المياه الساخنة!”


الفيلسوف لودفج وينجستين:

"اللغة جزء من كيانا العضوي، و ليست بأقل تعقيدا منه"


و يقول أيضا مقولة هامة جدا: “ محدودية لغتي، هي محدودية عالمي"


فريدريكو فيلليني:


" اللغة المختلفة، هي رؤية أخرى للحياة "


و شرحا لما قال فيلليني أقول أن في علم البرمجة اللغوية العصبية مسلمة تقول أن كل شخص فينا لديه خريطة عن الواقع، لا أحد فينا يعلم الواقع.. ولا يعرف ماهيته، و لكن كل شخص فينا لديه خريطة رسمها من خلال خبراته التي تلقاها عن الواقع.. مثل مثلا الرسام يرسم شجرة، الرسم قد يشبه الشجرة كلما زادت دقة ملاحظة الرسام، و لكنه لن يكون مثل الشجرة أبدا.


و كل شعب و كل أمة خرجت لغتها من خلال تجربتها الشخصية، الشعوب اللاتينية خرجت باللغة اللاتنية لأنها تناسب وقتهم، و فيها المصطلحات التي تغطي عالمهم، اما الانجليز فقد خرجو بما يناسب قبيلة الانجلو ساكسون .. و مع تطور الحياة تطورت اللغة لتختلف.. حسب ثقافة الشعب. العربية خرجت كمحصلة للغات الحضارات المختلفة من حولها، الذين نزحوا من اماكنهم الى بلاد العرب.. لتخرج لغة هي مزيج من لغات مختلفة لشعوب هاجرت وقت أن هاجر سيدنا اسماعيل لأرض العرب، فتطورت هناك لغة القحطانيين التي كانت اختلطت بالعرب البائدة، وهم انفسهم كان قضي عليهم في سيل العرم. هذا التطور في اللغة الذي بدأ يجد في حداثتها و قدرتها على التفاعل مع الاعراق المختلفة النازحة للحج .. مع ارتباط ثقافة السفر بفكرة الحج نفسها، أدى إلى خروج لغة متطورة قادرة على سبر غور الانسان باختيار اقرب مخارج اللفظ إلى القلب و العقل، و نطقها على اساليب عجيبة تطرب الاذن و تصيبها بالاسترخاء. مم اضفى على العرب من هذا الاختلاط للشعوب امكانية قيام التجارة و خروج ثقافة الاسواق كسوق عكاظ و غيره، بل و السفر لامكان استراتجية من الناحية التجارية تجلب بضائع الشمال من نقطة الشام و بضائع الجنوب من نقطة اليمن، ليتم امتزاج البضائع شمالا و جنوبا تحت ذوق الحجاج الذين يفدون من جميع انحاء العالم.

و كان هذا التطور يتم على سنين طويلة، حتى لبت اللغة العربية احتياج الكفار و المسيحيين و اليهود، ولا سيما أننا نرى أهل الكتاب من المصريين و غيرهم يحبون اللغة العربية.

وما قيل هنا يدل على عالمية اللغة، و اتساع افق الانسان العربي و ليس ضيقه كما يظن البعض، و ذوقه و اتقانه لفنون مختلفة.


و بذلك يصدق من قال و لا اذكر اسمها او اسمه، انه بذكاء اللغة يقاس ذكاء الشعوب.


ولا يقال هنا لماذا .. فلا شعب يتكلم العربية اليوم في حياته اليومية، نحن كما قلنا نتكلم لغات متغيرة لا نحو فيها و لا صرف و لا ذكاء. بل هي تمييع لثقافة عربية .. تدل إذا دلت على أن العقل العربي الحديث قد تسطح و تميع على مر الثلاث قرون الماضية بداية من افعال العثمانيين و نهاية الى الثقافات المهاجرة عبر المحيط اليوم.


ارجع هنا لأوضح علاقة الصورة التي في الذاكرة بالتخيل.


مثلا شخص ما تخيل شيء اسمه الرجل العنكبوت و هو المشهور من الكوميكس الأمريكية، إنما هو استحضر صورة العنكبوت و خلطها بصورة الرجل.


الجعران المجنح للفراعنة، هو في هذا الباب عبارة عن إعادة تركيب لجزء من طائر، و هو الجناح و لصقه في قفا جعران.

و لا يمكن تخيل شيء في الدنيا إلا من الدنيا، نحن عبارة عن معطيات و مخرجات.. على أساس المعطيات تخرج المخرجات دائما. لا يوجد شيء اسمه اخترع لنا شيء من العدم.. العدم هو الشيء الوحيد الذي يمكن إخراجه من العدم.


و لذلك لما كانت الجنة أرضا لم تطأها قدم الإنسان، فقد صدق الرسول الكريم فيما بلغ عن ربه بوصف ما فيها بأنه مم لا عين رأت و لا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر.


و إن قال قائل كيف توفق بين قول الحق في كتابه، فيها فاكهة مم يتخيرون و لحم طير مم يشتهون.. نقول و بالله التوفيق أن فيها هذا و فيها أيضا ما لا عين رأت و لا أذن سمعت و لاخطر على قلب بشر.

كما أن أرض الجنة مختلفة عن أرض الدنيا فهذا باق و هذا فان.. فلا يجب أن نظن أن الجنة تتركب من ذرات و عناصر من نفس ذراتنا و عناصرنا هذه.. نحن مسجنون في عالم الذر و العناصر.. أو نحن عبارة أنبوبة اختبار كبيرة تتحرك داخل معمل يسمى بالنظام الكوني.. لا أحد يعلم ماذا يمكن أن يخلق الله من الطير و الفاكهة في نظم مختلفة تماما عن نظمنا، بل وماذا يمكن أن يكون تركيب أجسادنا في ذلك المكان، و هذا الكلام يخص كل من له دين يؤمن فيه بالجنة و النار من المسلمين و المسيحين و اليهود و غيرهم.


إننا في سجن منظم من المواد المختلفة، التي تشكلت من عناصر مختلفة، و لما وجد علماء الغرب العناصر كلما ازدادت تعقيدا أو قلت فإنها دائما تنتظم في فهرس بسيط يسمى بالحمض الريبوزومي، وهو الدي ان ايه، ووجدوا أنه على حسب التعقيد و تتابع الشفرات فيمكن ترتيبها من الأرقى فالأقل رقيا، و ربطوا هذا بذاك بنظرية تسمى التطور، تقول أن كل عضو من أعضاء هذه المملكة الكبيرة هو جزء من نظام حدث .. فكرة تصنع نظرية لتربط حقائق.. هذا هو التفكير الذي يحاول أن يستنتج لغة الكون، و لو أننا سلمنا بأن النظرية الخاصة بالتطور سليمة كنظرية ( و ليس كقانون علمي ) فقل لنا يا من تركض لاهثا ورائها ماذا بعد هذه المواد و ترتيبها؟ هل رأيت في الكون شيئا مختلفا عن الموجة و الإليكترون؟



يقول برن: لقد نظرت للعلم فوجدت أنه كله عبارة عن نظريات فلسفية، تحاول تفسير ما توصلنا إليه من أبحاث.


يقول هايدنبرج: نظرية الكوانتم لا يمكن وصفها باللغة الإنجليزية بحال، ان الكلام لا يملك مرادفات تستطيع وصف الموضوع. اقول له نعم و انا أكيد أن اللغة العربية فيها ما يصف الكلام.


اللغة هنا هي وسيلة تجيد ربط الصور ببعضها، انظر كيف قسمت اللغة العربية أنواع الترابطات إذ خرج التشبيه و خرجت الاستعارة و خرج المجاز.. يقول قائل نعم و اللغة الإنجليزية و الألمانية فيهن هذا، نقول له صحيح.. و لكن ليس كالعربية.. العربية فيها من التشبيه أنواع لا تحصى.. و من الاستعارة أنواع أيضا لا تحصى.. و لهم في موسيقى الكلام انواع تبدأ من السجع في النثر.. وحتى القوافي في الشعر.. انظر إلى بحور الشعر في العربية مثلا .. بل و انظر إلى وصف هذا النسيج الوزني بكلمة بحر في حد ذاتها.. فلا يوجد بحور في غيرها. مم يعطي المتكلم القدرة على النزول إلى أقصى مراتب التجريد مع اللغة و الصعود إلى أعلى درجات البلاغة صعودا و نزولا لا يمكن مقارنتهما بغيرها من اللغات بحال من الأحوال.







1 comment:

نادي حواء said...

شكرا علي المجهود