Tuesday, December 05, 2017

التراث يقول: الكلب ليس نجساً

ربما لا يقتنع كل المصريين بأن ما قاله إسلام البحيري على صحيح البخاري صحيحاً، و أن هجومه الشرس على الإمام البخاري و كتابه في حد ذاته دليل على الشك في دقة إسلام البحيري نفسه.
 و لكن بدأ تيارٌ جديد في الظهور يرى أنه - مع ذلك - من الصعب تصديق أن كل ما يقوله إسلام البحيري خطأ:  هذا التيار يرى أنه من الصعب التصديق بأن رجلاً يسجن من أجل فكرة يهدف فقط للربح المادي.
بعد أحداث الجمعة الحزينة التي استشهد فيها أكثر من ثلاثمائة مصلٍ في مسجد الروضة السني في المقام الأول، و الذي تمارس فيه إحدى الطرق الصوفية ما لها من ذكر و حضرات في المقام التالي.. قرر الناس على السوشيال ميديا مناقشة بعض الثوابت التي هي أقرب للثقافة المصرية الركيكية منها إلى التراث الإسلامي. والركاكة لا تعني هنا خطأها، و لكن تعني أن الصواب منها يطرح بطريقة ساذجة.
إسلام البحيري اختص دون العلوم الشرعية كلها علم الحديث، واختص دون كتب الحديث كلها  كتاب صحيح البخاري.. و كال لهذا الكتاب بكل ما يستطيع من قوة.. و بالطبع، هذا الهجوم صنع شكاً داخل المجتمع في كتاب البخاري، و صنع شكاً آخر بالتالي في علوم الحديث، و صنع بالتالي شكاً ثالثاً في العبادات و الأحكام و الحدود و الناسخ و المنسوخ.. كل هذه الأمور متصلة غير منفصلة في الفكر الموجود حالياً.

لكن هذا التيار اشترك مع تيار العوام ممن يسمون أنفسهم السلفيون .. و من يشبههم، بأنهم استندوا للحديث الشريف في إصدار أحكام و فتاوى.. و هذا و إن كان ليس بخطأ في فكرته الأساسية، إلا أنه يجب أن نقف هنا وقفة و نحدد أن هناك فارقاً بين علوم الفقه، و علوم الحديث.
فعلم الحديث يهتم بالرواية التي نقل بها الحديث من صدر النبي صلى الله عليه و سلم، أو آل بيته، أو صحابته، أو تابعيهم إلى من سمعهم، و ممن سمعهم إلى من سمع بعد ذلك حتى وصل إلى كتاب مطبوع أو إلى عالم يخبر به. و علم الحديث أيضاً فيه علم فهم النص، ما يسمى بعلم الدراية.. فالنقل دون فهم آفة من الآفات التي تنخر في جسد الإسلام. و قد عاب القرآن على هؤلاء الذين لم يفهموا ما نقلوا فشبههم بالحمار يحمل أسفاراً.. إذ يقول تعالى: "مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا ۚ "    و بالمناسبة  - و بم أننا نتكلم في هذا الباب - فهذه الآية لا تسب اليهود، هؤلاء المذكورين في الآية ارتدوا حتى عين دينهم. بالإضافة إلى أن هذا تشبيه تمثيلي يشمل أي شخص يحمل الآية و لا يفهمها، لقد كان من مشايخنا في القرآن من يقول للطالب الذي يخطيء في القرآن بعد أن كان ماهراً فيه أنه كالحمار يحمل أسفاراً. و الإمام القرطبي في تفسيره أوضح أن هذه المسألة لا تقف على أي دين، و إنما هو معنى شامل حتى المسلمين يدخلون فيه إن كانوا لا يفهمون ما يقولون.

و هذه هي حقيقة علم الحديث، الرواية وحدها ليست تمثل علماً يبني حضارة مثل الحضارة الإسلامية و إنما يكون معها أيضاً فهم الرواية و مقتضياتها و الوقت الذي خرجت فيه و ظروفه.. و إلا لم يكن هذا بمجتمع علمي.. و لو أن مقصد الذين اتبعوا البحيري هو الإنكار على من تبعوا الرواية دون فهم للحديث، فلا جدال أن الإمام البخاري نفسه يتفق معهم.

أما الفقه فهو علم يدرس القرآن و تفسيره، و الحديث و تفسيره و روايته، و ظروف الزمان و المكان. و يعمل العقل بالقياس.. و يفتح حواراً مجتمعياً بين العلماء و الخواص و العوام ليصل لم يسمى الخلاف أو الاتفاق.. و هو علم يعتمد على الإدراك العقلي للشيء.. و لذلك اختص هذا العلم بالأحكام، حيث يقف علم الحديث عنها. فلا يمكن لشخص أن يخرج بحديث و يخرج منه بحكم دون أن يلم بباقي الأحاديث التي تتكلم في نفس المسألة، و يخرج مع ذلك بالآيات القرآنية التي تتكلم في نفس الموضوع، و الروايات.. عبر العصور و آراء العلماء المختلفة في نفس المسألة.. ثم آراء ووضع و أعراف المجتمع فيها.. بل و أن هناك من الفقهاء من كان يرجع أحياناً للكتب الأخرى كالإنجيل و التوراة ليعرف أحكام نفس المسألة فيما سبقونا من أديان.   و بالتالي الفقه أشبه بعملية تحري عميقة.. الهدف منها جمع كل قطع الموضوع الذي تبحث فيه للوصول لصورة كاملة متكاملة من كل الجوانب .. ثم بعد هذا الوصول و معرفة قوانين الموضوع.. يخرج الحكم على أساس علمي دقيق.

أول من تجنب علم الفقه كانوا من يدعون أنفسهم بالسلفيين.. و أول من وضع علم الحديث كأساس لصدور الأحكام الفقهية كانوا عوام السلفيين.. و هم الذين ظهر منهم من يقول أن مذاهب الفقه تفريق للأمة الإسلامية.. مع أن طبيعة البشر هي المذهبية فنحن لن نفكر جميعاً بنفس الطريقة.. و بالتالي فهؤلاء هم من تر فيهم جموداً عقلياً في فهم الأحكام  .. أما إسلام البحيري و اتباعه فهم لم يختلفوا عن السلفيين في شيء.. هم أيضاً تصوروا الإسلام يصدر فقهه في داخل علم الحديث فقط فهاجموا هذا العلم و بالتالي ميعوا الفقه .. و وضعوه جانباً.

و هنا تأت مناسبة العنوان الخاص بهذا المقال، و الذي اخترت له هذا العنوان لأني قرأت سيدة على موقع اجتماعي كتبت حوالي خمسين رآياً كلها بنيت على فهمها هي للقرآن، و تركت الحديث تماماً، بحجة أن الحديث الشريف كله مشكوك فيه.. و من ضمن ما قالت أن الكلب ليس بنجس، و أنه لم يقل أحد بنجاسة الخنزير.

و أظن أني سأرد على نقاطها الخمسين ليس لأني أعرفها، مع كامل احترامي، و لكن لأني أر هذه الآراء انتشرت في الآونة الأخيرة بين الشباب، وسببت التشويش الذي يتفرع منه إسلام متميع أو ردة عن الدين. و لذلك حان الوقت للرد.

أما نجاسة الكلب فهي مسألة خلافية، و بصفتي مالكي المذهب، فالكلب ليس بنجس عند المالكية. يعني كتب التراث التي يهاجمها الناس هذه الأيام و التي من أهمها في مجال الفقه كتب المالكية لا تر الكلب نجس.

و بالمناسبة كلمة نجس ليست سبة، و لا هي تحقير للكلب، بالعكس، الكلب حيوان محترم جداً في دين الإسلام لأنه سيدخل الجنة مع أهل الكهف. نقطة نجاسة الحيوان أو الإنسان هي لها معنى محدد و هو انتفاء الطهارة بشكلها الإسلامي المحدد. يعني ممكن شخص ليس بمسلم، و أنظف مائة مرة من المسلم ، و يعترف له المسلم بنظافته و طهارته .. و لكن مع ذلك فهو ليس طاهراً بالشكل الإسلامي، و هذه الجملة تستخدم فيها إصطلاحاً ككلمة نجس، و هي كلمة عربية خالصة تعني ضد الطهارة..  ليس بالضرورة لها علاقة بالقذارة.. و لكن نحن المصريون من أخذنا هذه الكلمة و حولناها إلى سباب .. نسب به بعضا البعض.

أما قولها أن من قالوا بنجاسة الكلب لماذا لم يقولوا بنجاسة الخنزير.. فالإمام الشافعي الذي رآى أن الكلب نجس، قد رآى نجاسة الخنزير أيضاً. و بالمناسبة طريقة حكمه التي ذكرها في كتاب الأم كانت بسيطة: لأن الخنزير إن لم يكن بأسوأ حال من الكلب، فليس بأفضل حال منه. أو هكذا قال الشافعي..  فلا قال قرآناً و لا قال حديثاً و لكن استخدم القياس العقلي .. و من عقله وافق الشافعي فليأخذ مذهبه.

الأحناف لم يروا الكلب نجساً و لكن رأوا لسانه فقط هو النجس، و سبحان الله أن في زماننا هذا من العلماء من وجد أن الكلب يعرق من لسانه، أي يلقى كل فضلات جسمه من لسانه. فتصادف أن حكم أبي حنيفة قريب من حكم العلم الحديث.

فكلها آراء، و كما قال الإمام الشافعي: "رأيي صواب يحتمل الخطأ و رأي غيري خطأ يحتمل الصواب" و بناء عليه .. خذ بالذي يناسبك.. و عش حياتك دون شجار أو جدال أو مشاكل.  أما بالنسبة لي فأنا مالكي المذهب، و التراث المالكي يؤكد أن الكلب ليس بنجس وبالتالي فهذا ما أقلده و اقتنع به. انتهى.

No comments: