Monday, December 24, 2007

لماذا اللغة العربية

مقدمة

كم كانت جميلة الفتاة التي سألتني عن معنى اسمي منذ أكثر من عشر سنوات، وقت أن كان صديقي الفنان السويسري رومانو ديلاكييزا يستضيفنا في قهوة الفيشاوي و كان أول من أخذني - مع الأسف - لمصر القديمة وهو يحاول تقديم المنطقة لصدقتيه الفنانتين السويسريتين في زيارتهما الأولى للقاهرة، وكن يعملن بجامعة سويسرية إن لم تحن الذاكرة و معنا الفنان حسين شكارة. فقد كانت أول مرة في حياتي أرى عينين يخضبهما اللون الأزرق. و مع أني لم اتمكن من النظر إليها لفترة طويلة، و لكن في سؤالها هذا على قدر بساطته و تلقائيته، إلا أنه يحمل الكثير من المعاني
أولها قول الشاعر حسن المرواني:

" لامو أفتتاني بزرقاء العيون ولو رأوا جمال عينيك مالاموا افتتاناتي

لو لم يكن أجمل الألوان أزرقها ما أختاره الله لونا للسماواتِ "

و تعجبت أن اللون الأزرق عند أهل التصميم البصري لون تحبه العين، و من حرفية التصميم يضعونه بشكل غير مباشر لأن العين تبحث عنه.

و لماذا تحرم فتاة وهب الله عينيها هذين اللونين من سماع بيتين من الشعر بمثل هذا الذكاء.

ثانيها أني لم أعرف كيف أترجم شوقي، فياء الملكية مع الشوق لهما دلالة لا يمكن ترجمتها في كلمة واحدة .. فكيف اترجم شوق؟
Longing or interest or yearning or missing
و كيف أضع قبلها ضمير الملكية، هذه الترجمة الحرفية لن تتناسب مع المعنى.. إن كلمة شوقي وحدها كاسم عربي تحمل أكثر مم تنطوي عليه الحروف الأربع للكلمة
فالشوق شعور أصلي في أغلب قصائد الحب حتى الديني منه. لا سيما و أن إضافة ضمير الملكية هنا يزيد الكلام بلاغة و يحمل من المعنى ما لا يخفى على العقل العربي

ثالثها هي سر سؤالها عن معنى الاسم بشكل خاص، فقد سألت لأني مضيت باسم شوقش على رسمة كنت افرجها لها، و قد أثار انتباهها الخط العربي الذي كتبت به حتى أنها سالت عن معنى الاسم

نعم هي لم تكن تسأل عن شوقي ولكن عن شوقش، و كان يجب علي أن أقص سر اسم شوقش نفسه، و كانت اجابة تحتاج إلى شرح طويل، فاكتفيت بقولي إن هذا الاسم يعني شيء جميل

و أصرت على أن تتعلم الكلمة، فعلمتها كيف تنطقها
الطريف أننا كنا نمشي في المكان فاوقفتها قطعة فنية في خان الخليلي قالت لي عندما راتها/ شوقش!
فقلت لها : شوقش؟ ماذا تعنين؟
قالت: ألم تقل لي أن شوقش يعني شيء جميل، فهذه القطعة شيء جميل فهي شوقش
وضحك الجميع، و أنا ضحكت و انا اتعجب.

اللغة هي مجموعة من الأصوات التي يستخدمها الناس وينطقونها بشكل موسيقي له ترتيب معين على السلم، فاخر حرف عادة لا ينطق مثل اول حرف في الكلمة، و هو أيضا يرسم فيكون الرسم هو رمز تحسه العين
و يترجمه اللسان بنطق. و بدون اللغة لا يمكن للناس أن يتصلوا.. فاللغة هي تجريد للمعرفة الإنسانية، و أسلوب نقل محتوى رأس الناس بينها و بين بعضها.. بدون اللغة ينعزل الإنسان.
يدرس علم الطباع أصل اللغة و تكوينها و هناك عدة نظريات لمنشأها، و هي لا يجب وصفها بالدقة بل هي مثل نظرية التطور، يصدقها المؤمنون بالعلم لأنهم لا يعرفون غيرها
أما بالنسبة للكتابة فهي ينطبق عليها نظرية التطور بالأدلة و البراهين، على أنها جاءت من حيث رسم الناس رسوماتهم الأولى فقرروا تطوير هذه الرسومات لحروف تعبر عن أصواتهم.
انسان الكهف الذي كان يرسم صيدته على جدران الكهوف، مع الوقت و حفظ الشكل العام بدأ يقلد صوت الثور الذي سيصطاده، و صوت حركاته، و ربما يقلد حركاته المختلفة و يربط الصوت بالحركة على شكل موسيقى و رقص
و يربط شكلها تدريجيا بصوت معين على شكل حرف و نطق.. ترى هذا واضحا حتى في حضارة كحضارة المصري القديم إذ ترى كتاباته كلها رسم دقيق يحمل تقريبا كل الحشرات و الحيوانات و الطيور و الناس الذين كانوا بمصر القديمة وقتها
و على حسب دلالة الرسمة تدل الكلمة.. و مع الوقت بدأت الرسومات تتطور إلى الأبسط في الشكل، و الأسهل لتعليمه للناس ..
فالرسم الديموطيقي المبسط هو تلخيص و تبسيط للهيروغليفية حتى يستطيع الذين لم يمتكلوا موهبة الرسم كتابة الرسائل أيضا ..

و لما كانت اللغة رسما و كتابة هي محصلة و نتاج و خبرات المجموعة التي ابتكرتها، فقد كانت وسيلة التفكير، فبلغتك تفكر، وتتابع افكارك، و الأمم الذكية تكون لها لغة ذكية تنتمي لنفس طبيعة ذكائها
المصري القديم مثلا كان له اللغة المصرية القديمة، تجد نطقها و سلالمها الموسيقية، و رسمها كله من النوع الاستاتيكي، الذي يلتزم بالمحورين الطولي والعرضي في الرسم، و هكذا تكون في الكلام أيضا. فهي كاللغات الأول في أوروبا، تتحرك في اتجاه واحد، الإنجليزية مثلا على سبيل المثال لغة
تتحرك في اتجاه واحد، و لذلك تجد أفواههم منثنية من المنتصف إلى أعلى، بينما اللغة العربية لغة صوتها يتحرك في جميع الاتجاهات، فتجد الفاه العربي ممتليء الشفاه، و وسيم الطلعة. و كما تكون اللغة الإنجليزية و مثيلاتها لا تملك إلى وسيلة واحدة فقط أو اثنتين للتعبير عن المعنى، تجد أن العربية لا حصر لوسائل تعبيرها عن المعنى الواحد
و لذلك تجد أولئك الذين يتكلمون العربية أو حتى اللغات المتفرعة منها كالمصرية يكررون الكلام كثيرا لأنهم يستطيعون صياغته في أشكال و قوالب متعددة، فيجيدون التعبير عن إحساسهم عكس الغربي فإن تكراره عادة لا يزيد المعنى شيئا، و هذا سبب مللهم التكرار

حتى إن الجملة العربية الواحدة لو قرأت مرتين بلحنين مختلفين لأفاد اللحن الجديد معنى، فأم كلثوم قد تغني الشيء مرتين بنفس الكلمات على لحن واحد و لكن تختلف فيه المدات و الوقفات فيطرب الناس و هذا لأن اللغة العربية اختارت مخارجا من الفم هن الأقرب للقلب و العقل فالحرف عين الذي يتصدر كلمة العربية ( اول أن تنطق الكلمة عا ) هو حرف يخرج من عمق الجوف المفتوح، كأنه يصل الخارج بما داخل الإنسان ..
و هو حرف لا تجده في اللغات الأوروبية و يميز العربية عن غيرها تمييزا، بل إنهم لا يستطيعون نطقه، ما يدل على أن منطوقاتهم أغلبها يذهب للمخارج الغير جوفية، فليس هناك حاء و لا عين ولا خاء ( و الخاء الإسبانية دخلت من الأندلس لأوروبا ) و لا ضاد و هو الأصعب بين الحروف لأن اللسان ينثني فيه و يلمس أعلى الفم ثم ينفرد و يلمس أعلى الأسنان و لا لسان استطاع فعلها بالشكل الصحيح إلا لسان شخص واحد فقط هو لسان رسول الإسلام محمد بن عبدالله صلى الله عليه و سلم

في مجال الأداب نال البروفسيور عبدالله الطيب درجة الدكتوراة من جامعة لندن سواس، و درس في انجلترا على المستوى الجماعي، و هذا دليل على تمكنه من لغتهم، ثم سأله سائل يوما عن اللغات التي يتكلمها فقال: إني اتكلم الإنجليزية بطلاقة، و أعرف القليل من العربية

و هو لا يقل عن طه حسين في العربية أصلا، فهو عميدها في السودان و تشهد له الأوساط اللغوية بهذا، بيد أن العربية ليست باللغة التي تقارن بغيرها، فالانجليزية إن كان فيها مائة و خمسين ألف كلمة فالعربية فيها ربعمائة ألف مادة معجمية .. العربية مواد معجمية تخرج منها الكلمات كما تريد .. يكفيك أن تعلم مادة كاف فصل التاء مع ملاحظة الباء، لتخرج منها كل ما تحتاجه من كتب، كاتب، مكتوب، و صيغ المبالغة كتاب، كتيب، كتوب، كتاب بتشديد التاء، و كتاب و مكتوب لهم أكثر من معنى، و كتيب لها أكثر من معنى
على حسب وضعها في الجملة، و مستكتب، و مكتتب، و مكتبة، و الخ .. و هذا يعني أنها ليست لغة تعتمد على تلقين كلماتها لتعلمها بل هي لغة تعتمد على المتكلم و فنه صياغة الكلمات كما يريد، و لهذا يستحيل على أي شخص يتكلمها ألا يكون له أسلوب فيها.

و هنا يسرني أن أقول أن اللغة المصرية هي لغة مختلفة تماما عن العربية، فهي لا تعتمد على مواد معجمية ولا صرف لها و لا نحو، و الظاهر أنها لغة استعملت الكلمات العربية و حورتها على أوزان الرومان و المصري و التركي و غيرهن من اللغات اللائي تكلمهن الشعب، و هي لغة فقيرة ذات اتجاه واحد مثل اللغات الهندو أوروبية
و لا تزال هناك بعض الكلمات من اللغات القديمة في المصرية مثل شبشب فهي في المصري القديم لعهد الفراعنة معناها ما ينتعله المرء، و كذا كلمة أمبوه تعني الماء في اللغة المصرية القديمة.. و قد ينقص المصري من الكلمات و يستبدلها ببعض الكلمات العربية و لكنه يقولها بلحن مصري، و الكلمة التي تقولها المرأة من العوام في قولها نعم يا عمر تلحنها على لحن روماني ايطالي لا تزلن نسوة إيطاليا يقولنه في مشاجراتهن
فمصر لا تتكلم العربية اصلا في كلامها العادي، بل هي لغة يتكلمها المتعلمون و المثقفون من أبنائها و للدكتور شوقي ضيف هنا كتاب عما طرأ في العامية من تغيير أرجو شراءه للاستزادة

1 comment:

Michel Hanna said...

تدوينة ممتازة.
شكرا جزيلا.